الحمدَ للهِ على ألائه الجسيمة ونعمه العظيمة فنعمةُ الوطن وحبه وأمنهِ خير نعمة والصلاة والسلام على من تربى في أحضان مكة وأخرج من وطنه الى المدينة .. موقفٌ حزينٌ .. فِراقٌ وحَنينٌ .. كيفَ لا، وها هو سيِّدُ الوَرى .. يُوادعُ أمَّ القُرى .. وقفَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قبلَ خُروجِه من مكةَ على الحَزْوَرَةِ -تَلٍّ مُرتفعٍ يطلُّ على الكعبةِ- وهو على راحلتِه، فقالَ:(ما أطيبَكِ من بلدٍ،وأحبَّكِ إليَّ،ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَكِ، واللهِ إنكِ لخيرُ أرضِ اللهِ، وأحبُ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ).
فتحقَّقَ بهجرتِه ما أخبرَه به وَرَقَةُبْنُ نَوْفَلٍ قبلَ سِنينَ،حينَ قالَ له:يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟)، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ رحمه اللهُ: (يُؤخذُ مِنهُ شِدَّةَ مُفارَقَةِ الوَطَنِ على النَّفسِ؛ وقد سَمِعَ قَولَ وَرقةَ أَنَّهُم يُؤذُونَهُ ويُكذِّبُونَه فلَم يَظهَرْ مِنهُ انزِعَاجٌ لِذلكَ، فلمَّا ذَكرَ لَهُ الإخراجَ تَحرَّكتْ نَفسُهُ لحبِّ الوَطنِ وإِلْفِهِ، فقالَ: (أوَ مخرجِيَّ هُم؟)، وصدقَ رحمَه الله فحبُ الأوطانِ..متأصلٌ في فطرةِ جميعِ الكائناتِ..فالطُّيورُ تَحِنُّ إلى أَوكارِها .. والحِيتانُ تحنُّ إلى بِحارِها..والإبلُ تحنُّ إلى معاطنِها ..والدَّوابُّ تحنُّ إلى مساكنِها .. والبشرُ تحنُّ إلى أوطانِها.
لقد ذكرَ اللهُ تعالى في كتابِه أنَّ خُروجَ الأجسادِ من الأوطانِ، يعادلُ خُروجَ الأرواحِ من الأبدانِ،فقال تعالى:(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً). ومدحَ سُبحانَه المهاجرينَ بتضحيتِهم وتركِهم لأوطانِهم في سبيلِ اللهِ تعالى (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).
وأما الشعراءُ فكانَ في أشعارِهم نصيبٌ من حب الوطنِ .. فيقول أبو تمام:
كم منزلٍ في الأرضِ يألفُه الفتى *** وحنينُه أبداً لأولِ منزلِ
نقِّل فؤادَك حيثُ شئتَ من الهوى *** ما الحبُ إلا للحبيبِ الأولِ
والوطن، فيه الماضي والذكرياتُ، فيه المستقبلُ والأمنياتُ، فيه الأهلُ والأحبابُ، ومفارقتُه قطعةٌ من العذابِ، كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ) .. يقولُ الأصمعيُّ رحمَه اللهُ، سَمعتُ أَعرابياً يَقولُ: إذا أَردتَ أن تَعرفَ الرَّجلَ، فانظرْ كَيفَ تَحنُّنُهُ إلى أوطانِه، وتَشوُّقُهُ إلى إخوانِه، وبكاؤهُ على ما مضى من زَمانِه.
وهكذا النَّاسُ يُحبونَ أوطانَهم ولو لم يكن فيها شيءٌ جميلٌ، فكيف بوطن كل شيءٍ فيه أصيلٌ وجميلٌ ،،
وقد قالَ الشَّاعرُ:
بلادٌ ألفناها على كلِ حالةٍ *وقد يُؤْلَفُ الشيءُ الذي ليسَ بالحَسنْ
وتُسْتعذبُ الأرضُ التي لا هواءَ بها **ولا ماؤها عذبٌ، ولكنها وَطَنْ
لا يحبُّ الوطنَ ..
من يتعامى عن محاسنِه الأنيقةِ، ولا يرى إلا معايبه الدَّقيقةَ، ينتقدُ بلادَه ولا يُثني، يَهدمُ أمجادَه ولا يبني، يعيبُ أهدافَه ولا يمدحُ، يحزنُ لإنجازاتَه ولا يفرحُ، يذهبُ يشتكي عليها عندَ المُنظَّماتِ والهيئاتِ ، ويستعدي عليها عند أبوابِ السَّفاراتِ، فلا يرى في بلادِه إلا العيوبَ والأخطاءَ، وتعمى عُيونُهُ عن كلِّ المحاسنِ والآلاءِ، فهو يعيشُ في حَضنِ الأعداءِ، بوقاً يُردِّدُ الشَّتيمةَ في كلِّ لقاءٍ، يَعبثُ بوحدةِ الصَّفِّ وسَفكِ الدِّماءِ، ونسوا أو تناسوا نِعمَ اللهِ تعالى عليهم وهو العزيزُ الشَّكورُ، وما بذلتْه البلادُ لهم على مرِّ الدُّهورِ، ولسانُ حَالِ الوطنِ يقولُ لمثلِ هذا المغرورِ:
أُعَلِّـمُهُ الرِّمَـايةَ كُلَّ يَـومٍ *** فَلمَّـا اشْتَدَّ سَاعِدُه رَمانِي
وَكَمْ عَلَّمْتُـهُ نَظْمَ القَوَافي *** فَلَـمَّـا قَالَ قَافِيةً هَجـانِي
لا يُحبُّ الوطنَ ..
من يجاهرُ بالمعصيةِ ويُفَاخرُ بها أمامَ العِبادِ ، فيكونُ سبباً في رفعِ العافيةِ عن البِلادِ، وقد قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (كُلُّ أَمَّتِي مُعَافًى إِلا المُجاهرينَ).
ولا يُحبُّ الوطنَ..
من يُشيعُ الفاحشةَ وأخبارَها بينَ المؤمنينَ ،في نَشرِ كَلِمةٍ أو مقطعٍ أو فِعلٍ مَشينٍ،لتزيينِ الرَّذيلةِ والعلاقاتِ الآثمةِ،وقد قالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
في كـُلّ يوم ٍ موطني في خاطري **والقلبُ يَخفـِقُ دائمَ التَّحْنان ِ
لو عشت ُ في أدنى الخيام ِ بموطني = لـَيَفوقُ عندي أرفعَ البنيان ِمُتـَغَرِّب ٌبالجسم أحيا غـُرْبتي = وهناك في وطن ِ الجدود ِ جَناني
في كـُلِّ رُكْنٍ لي هنالك قصة ٌ = في مسجدي في حَلْقة ِ القرآن ِ
في سَهْرة ٍ مَعَ أسْرتي وأقاربي =في مجلس ٍ للصَحْب والخلان ِ
وطني الحبيب فلا ولـَسْت ُ أبيعُهُ = لا والذي من نطفة ٍ سَوّاني
ووصيتي دفني به هـِيَ مـُنـْيَتي = من أجل ذاك مُجَهـِّزٌ أكفاني
،
إننا نعيشُ في وطنٍ قد حوى بينَ جوانبِه الخيرَ العميمَ، ويحبُّه كلُّ مُسلمٍ على وجهِ الأرضِ لِما فيه من معالمِ الدِّينِ العظيمِ، فهذا بيتُ اللهِ عامرٌ تهوي إليه أفئدةُ المسلمينَ في كلِ مكانٍ، وهذا مسجدُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ تُشدُ إليه الرِّحالُ في كلِ زمانٍ،أمنٌ وأمانٌ،وتحكيمٌ بشريعةِ الإيمانِ، شعائرُ التوحيدِ ظاهرةٌ، ومظاهرٌ الشركِ داحرةٌ، فلنحافظْ على هذه النِّعمِ.
اللهم احفظ حُدُودنا وانصر جُنُودَنا. وألف بينَ قلوبنا. وبارك في حكومتنا مليكنا خادم الحرمين سلمان وولي عهده الهمام وسائر من تولى في هذا البلد مهمة لخدمة الانسان والمكان ، ولاتحرمنا أمنه واستقراره وعزه ، وأبقه شامخاً عالياً سامياً رمزاً للعالمين.
جمع وإعداد
حسين علي العثاثي
مدير مبدعون للتعليم
الجمعة ٢٢ سبتنمبر ٢٠١٨م