طرقت الباب ودخلت عليّ المكتب على استحياء حسب موعد مسبق محدد لها بخطوات قليلة متعثرة حتى وصلت للكرسي المقابل لي.. فطلبت منها الجلوس… ثم استدرت للثلاجة الصغيرة الواقعة على يساري وأخرجت منها قارورة مياه باردة قدمتها لها مع علبة مناديل ورقية.. قائلاً : تفضلي… ماهي الخدمة التي أقدر أقدمها لك ؟
فتحركت وجلست على الكرسي.. ومدت يديها المرتعشة إلى علبة المناديل فتحتها… وأخرجت منها كمية مناديل عشوائية مسحت بها عينيها… ثم أنفها تحت البرقع.. ثم فتحت قارورة الماء ورشفت منها رشفة تبل ريقها.. ثم أعادتها لمكانها.. قائلة : أنه أبي.. منذُ وفاة أمي… لم أعد أذكر من كم سنة مضت ؟!.. وهو يمنعني من إكمال الدراسة.. ومن الخروج من البيت لأيّ سبب مهما كان !.. ومن تعلم قيادة السيارة.. أبي حرمني ويحرمني من أبسط مباهج الحياة التي تستحقها فتاة في مثل سني !.. وإذا توسلت إليه لكوني ابنته الوحيدة أن يرحمني ولو بالخروج لزيارة الأقارب ؟.. يصدني بقوله : (المرأة لا تخرج في شرعي إلا لبيت زوجها.. أو لقبرها).. وإذا أصررت عليه بطلب ما ؟.. ضربني بشراسة.. وحبسني باليوم واليومين بلا رحمة داخل غرفتي !.. ولو لا أنه يضربني في أماكن حساسة من جسمي ؟.. لكشفت لك عنها لتشاهد اثارها بعينك !.. لدرجة أن هذا الموعد لم أقدر على حضوره إلا بحيلة.. طلبت منه أن يوصلني لمستوصف الحيّ للمراجعة بمرض نسائي.. وتركته ينتظرني عند بوابة القسم المخصص للنساء.. وخرجت من الباب الآخر وجئت إليك.. وكل الذي أريده هو تقرير طبي رسمي يحميني من هذا الوحش الكاسر المدعو أبي ؟.. لتختم طلبها ببكاء مرير مكتوم .
استمرت بعد كل مأساة تحكيها وتخبرني عنها تمسح عينيها وأنفها بالمناديل التي بقيت تحتفظ بها في يدها.. وترشف رشفة من قارورة الماء تبل ريقها.. وتنظر إليّ لتخبرني بالمأساة التي تليها.. إلى أن ختمت طلبها بالبكاء المرير الذي زلزل كياني.. بعدها قمت وطلبت منها الهدوء والانتظار عند السكرتارية حتى انهي كتابة التقرير الذي طلبته لحمايتها.. وفور خروجها وجدت نفسي عاجزاً عن التفكير في كتابة أيّ كلمة تليق بما سمعته منها.. وكلما كتبت كلمة بمسودة التقرير الذي بين يدي ظهرت أمام عيني صورة ابنتي الكبرى الوحيدة التي في مثل سنها.. إلى أن سمعت ضحكات هستيرية تنبعث من مكتب السكرتارية تنبهت.. وقمت بإعادة شريط كاميرا المراقبة الداخلية.. وشاهدتها وسمعتها بالصوت والصورة تقول للشاب الذي تجلس معه ينتظرها : (أثرت عليه ليكتب التقرير الذي أريده).. ويضحكان بضحكات سمعتها من داخل مكتبي.. أخرجتني من حيرتي.. جعلتني أمزق مسودة التقرير.. وأطلب عدم دخولها عليّ مرة أُخرى .
15/8/1443هـ .
أم جنيب : حيّة ذات قرنين سامة .
بقلم أحمد إسماعيل زين/السعودية