حينما توفّيت ولدتي بعد منتصف ليلة الجمعة صباح السبت ١٤٣٠/٧/٢٥
شعرت بحزن يتجاوز علامات الحزن الظاهرية من صمت ووجوم ودموع
شعرت بحزن
اصاب
الشرايين والاحساس
والنبض والفكر والانفاس
حزن يقتل كل مقومات الحياة في داخل الانسان
فالأم عند كل الناس ..
الحنان والامان
لكنها عند الايتام ..
كل الحياة
وشعرت بعطش لم يرتو بعدها ابدا
عطش لحنان غمرني وصنع احساسي ومشاعري لاكثر من اربعين عاما
وشعرت به صغيرا وكبيرا
وشعرت بجوع لم يشبع بعدها ابدا
جوع لصوتها وكلامها ودعاءها
فلا صوت يشبه صوتها ولا كلام يشبه كلامها ولادعاء مثل دعاءها
وكنت حتى اخر لحظة
اشعر بسعادة طفل صغير وانا اسمعها تدعو لي بدعوات بسيطة لكنها عميقة وصادقة وملهمة
كانت ولدتي هي المكان الذي ألِفْتُه منذ اول رضعة
والزمان الذي حفظته منذ اول نظرة
وشعرت بخوف بعد وفاتها لايطمئنه شيء في الحياة سوى وجودها
واصبحت بعدها اخاف من كل شيء حتى وانا رجل كبير ورب اسرة
حتى اني تمنيت ان تقوم القيامة
نعم والله تمنيت ان تقوم القيامة
وبعد وفاتها بأقل من ثلاثة اشهر
احترق بيتي حريقا كبيرا وتم اخراجنا منه انا وافراد اسرتي في الرمق الاخير بعد ان رأيت الموت في عيون ابنائي
وودعنا بعضنا بنظرات الاستسلام للموت
والحمدلله على فضله
وبعد الحريق كان الناس يباركون لي النجاة ويسألوني عن سبب الحريق فأقول لهم :
موت ولدتي
فيقولون لي : اذكر الله يا رجل
فاقول : والله ان سبب الحريق موت ولدتي
ولا زلت مقتنع بذلك
فقد كنت استلهم من وجودها ودعاءها حماية عظيمة بعد ستر الله وحفظه ورعايته وفضله
ولدتي ..
التي كنت في صغري اصحو من نومي لانطلق اليها وهي تجهز الجَبَنة لتضعها على المركّب لتشرب قهوتها المردوم صباحا
واحكي لها احلامي وانا نائم ومنها الطيب ومنها المخيف
فتفسر لي احلامي بما يطمئنني ويسعدني ويريحني
كانت تفعل ذلك بطبيعتها
كأم
ولدتي ..
التي كنت اشتكي اليها من ابسط عارض صداع او سخونة او الم في البطن
وكانت لمساتها وهي ( تغمزني)شفاء من كل داء
ولدتي ..
التي كنت اول ما اذهب اليها بعد عودتي من المدرسة الابتدائية لاحكي لها احداث اليوم
فلان غايب
وفلان ضربُه المدير
وفلان ضربه الاستاد لانه ما حل الواجب
والمدرسين لعبوا طايره في الفسحة وفاز فريق الاستاد عدنان لانه يكبس بقوة !
وهي تتفاعل معي وتشاركني التعليق
حتى وهي لاتعرف كرة الطايرة ولا الكبس ولا الاستاد عدنان !
ولدتي ..
التي كنت وانا في المتوسطة في المعهد العلمي استلم مكافأة قدرها مئتين وعشرة ريالات
واول ما اوصل البيت اسلمها لها بسعادة وارى السعادة تلوّن ملامحها
فتعطيني العشرة ريالات هدية
والباقي تصرفه علينا طوال الشهر بحرص وحكمة
ولدتي ..
التي كنت وانا في الثانوية ١٤٠١ و١٤٠٢
أتأخر ليالي الاجازة الى الساعة الثانية والثالثة صباحا وحينما اعود اجدها تنتظرني ومقاومة النوم واضحة عليها
وتقول لي : ابطيت الليلة
فاندم واعاهد نفسي
ان لا أتأخر بعدها
لكني اخون عهدي ونفسي واتأخر بكل اسف
ولدتي ..
التي بعد تخرجي من الثانوية وعزمي على الدراسة في الرياض بكت كثيرا
وتدبرت لي ثمن التذاكر لاسافر
وسافرت وهي تدعو لي وتوصيني بكل خير وجميل
ولدتي …
التي بكت ايضا يوم تخرجي وتعييني عام ١٤٠٧ وقالت : ذحين خلاص ارتحت من همك قديك رجل وموظف والحمدلله
ولدتي ..
التي حرصتْ وسعتْ لزواجي حتى تم في اخر ايام عام ١٤١٠
وفرحتْ به اكثر حتى من فرحي انا
وفرحت بابنائي واحبتهم
ومنحتهم من نهر حبها وحنانها مالا يوصف ولا يقاس
ولدتي ..
التي شاركتني هموم بناء منزلي الخاص بعد زواجي بكل تفاصيلها
وكانت تتابعني وتسألني عن كل خطوات البناء حتى اكتمل
بل وبكت من فرط سعادتها
وهي تدخل بيتي لاول مرة ولسانها يلهج بحمد الله وشكره
والدعاء لنا بالعافية والستر
ولدتي ..
التي كان
قلبها ..وطني
وعيناها ..فرحي
وضحكتها ..عالمي
ورضاها ..سعادتي
ووجودها ..وجودي وحياتي
ولدتي ..
كيف لها ان تموت
كيف لها ان تتركني وحيدا
وقد كانت هي رفيق العمر
بكل لحظاته
كيف لها ان تتركني حزينا
وهي كانت منذ طفولتي سر سعادتي
ولدتي ..
كيف للحياة ان تستمر بدون ولدتي
لكني آمنت بالله .