نتحرى شهرَ الصيامِ وبيننا وبينه من المسافةِ مااللهُ به عليم، ترتسمُ صورةُ كفِّ أمي المخضبةُ بالحناء، وزجاجةُ فانوسنا العتيق التي تلونتْ بالسواد ، حضرَ القماشُ الذي يزيلُ السوادَ لتتجلَّى الشُّعلةُ الخالدة ، اجتمعتْ حولَ الضوءِ الحشراتُ الصغيرة؛ حُبًّا للنُّورِ وشوقًا للدفء ، تمثُلُ عتبةُ الطِّينِ ويتألقُ الفانوسُ المعلقُ مثلَ نجمٍ في طبقِ السماء، يُظلمُ المكانُ البعيد، يخترقُه خوارُ البقرةِ البيضاء، يبيضُّ ماحولَها، صوتُها ينادي بالكرم ، يهطلُ من ضرعِها اللبنَ مثلَ وابلِ المطر ، يمتلأ الإناء، يتوزعُ بلا فواصل ، يذهبُ شذى ريحانتِنا نحو البيوتِ التي لاتحيطُ بها جدران ، ويأتي نحونا عبيرُ الحناءِ القادمِ من كلِّ اتجاه؛ فلا أسوارَ تحيطُ بنا، وفوقَ جدارِ الطينِ اصطفتْ صحونٌ وأطباقٌ تتراقصُ مع الهواءِ الجنوبي، وعلى صدرِ جدارٍ بعيدٍ كَتبَ أحدُهم تهنئةً بريئةً ورسمَ حولها هلالًا بفحمِ التنور، صعدَ من التنُّورِ الدخانُ بلاعودة ، وُضعَ في باطنِه خبزٌ أحمر أو أبيض، وشيءٌ من طيورِ البحرِ وبعضِ ثمارِ الأرض، فاحتِ الرائحةُ وجاءتْ أخرى نحوها ، تبادلَ الجيرانُ الموائد، الفتياتُ الصغيراتُ الأكثرُ حظًّا في نشرِ السعادةِ وقتَ صياحِ الديكةِ ورفعِ الأذان، والفتيانُ ينقلون خبرَ الغروب ، تشابهتِ الموائدُ عندَ المغيب، تَفطَّروا على تمراتٍ وماءٍ من الزيرِ ولقيماتٍ من ذرةٍ حمراء أو بيضاء ، مضتْ ليلةٌ استثنائية، السراجُ أضاءَ المكان ، النجومُ أنارتِ الكون، السعادةُ غمرتْ كلَّ شيء، والمحبةُ توزعتْ في الأرجاء ، انقضى الليلُ أو معظمُه، يومٌ قادمٌ لايختلفُ عن سابقِه، كبرَ شهرُ الصيامِ والعيونُ تنظرُ إلى هذا العظيمِ الذي يزدادُ جمالًا في رمضان، ازدادتِ المشاعرُ وهم يرددون: “شهرٌ مباركٌ” ، سمَتِ الأحاسيس وابيضَّتْ مثلَ كفِّ أمي ، كان لنا فانوسٌ نزيلُ سوادَه بخرقةٍ قديمةٍ لينيرَ المكان.
المشاهدات : 38321
التعليقات: 0