التحقتُ بالصف الأول الابتدائي في العام ١٣٩٠/١٣٨٩هـ، مَرَّ يومان أو ثلاثة على بدء الدراسة، توقفتُ عن الذهاب، كلُّ شيء في بيتنا الصغير كان مغريًا، ظِلُّ عُشَّتنا والعصافيرُ في فناءِ دارنا، اجتماعُ نساءِ الحيِّ تحت الظلال، وأعظمُ من ذلك وجهُ أمي وحنانها ودلالها، دعتْني أمي للذهابِ إلى المدرسة فامتنعتُ ورفضتُ في إباءٍ وتحججتُ بأني لا أريد مفارقتها ولا مبارحةَ المكان الذي هي فيه، حاولتْ ثم حاولتْ وأنا أصرُّ على عدمِ الذهابِ إلى المدرسة، تغيَّرَتْ وانقلبَ وجهُها الصبوحُ إلى وجهٍ غاضب، أمسكتْ بيدي بشدةٍ وجرَّتني جرًّا وسطَ الأزقةِ وبين أسوارِ جذوعِ الشجر ، اقتربنا أكثرَ من المدرسةِ القديمةِ المكونةِ من عُشَّةِ الإدارة والعُرُشِ المخصصةِ للفصول، كان التلاميذُ ينتظمون أمامَ المدرسةِ في منظرٍ بديعٍ وهم يؤدون تمارين الصباح، قالت لي هل أنتَ مصممٌ الآن على تركِ المدرسة؟ رفعتُ رأسي بالإيجاب، التفتتْ حولها ثم استلَّتْ جزءًا من ريحانةٍ عتيقةٍ يابسةٍ ورفعته تريد ضربي ولكنَّ أستاذي في الصف الأول الابتدائي محمد علي الرميلي كان مقبلًا يمتطي حمارًا قصيرًا فشاهد الموقفَ ونزلَ بسرعةٍ واتجه نحونا وأمسك بي بكلِّ حنوٍّ ومعي حقيبتي وأدخلني معه المدرسة، وأمامَ الفصلِ سألني وهو يبتسمُ ابتسامةً لاتزال ساكنةً في عيني إلى الآن مابك؟ لم أجبه؛ ثم احتضنني وقبَّلني وأعطاني قطعةً من النقودِ وأدخلني الفصلَ فسكنت نفسي واطمأنتْ ودخلتِ البهجةُ في قلبي للتعليم وانطلقتُ في فضاءٍ رحبٍ حتى بلغتُ كثيرًا من درجاته، وبعد عقدين من الزمن تزاملنا معلميْن في مدرسةٍ واحدةٍ هي مدرسةُ الواصلي الابتدائية وكان يمازحني بين فترةً وأخرى ويضحك في وجهي ويقول : هل لاتزالُ تتذكرُ جذعَ الريحانةِ اليابسة؟ فأضحكُ ويضحكُ معي وكلُّ واحدٍ يدخلُ فصله ، ولم تتوقف صفحاتُ الوفاءِ والحبِّ بيني وبينه فذهبتُ إليه مساءَ يومٍ وطلبتُ منه أن يَحضرَ حفلَ تقاعدي المبكر في مسرحِ التعليم بجازان، جاءَ ومعه هديةٌ بهذه المناسبة، فطلبتُ منه الصعودَ على المسرح وقبَّلتُ رأسَه أمام حشدِ الحاضرين وبلغتْ صورتي معه وصورته معي مبلغًا عظيمًا في مشهدٍ لايمحى ولايزول، ولأن القُبلاتِ والدموعَ قد تكونُ للفرحِ واللحظاتِ الماتعة فإنها أيضًا للحظاتِ الوداعِ والفراقِ والأحزان.
رحلَ عن دنيانا أستاذي وأستاذُ الأجيالِ المربي الرمزُ محمد علي الرميلي أحدُ رواد التعليم بمنطقة جازان مساءَ الأربعاء ٢٥من شعبان ١٤٤٥هـ بعد رحلةٍ تربويةٍ عظيمةٍ جمعتِ التعليمَ والحبَّ والصدقَ والصفاء، إنها الحياةُ نبدأها بقبلاتٍ حرَّى في مشوارِ الحياةِ ونختمها بقبلاتٍ أشد حرارةً على مَن نفارقهم ، محمد الرميلي جديرٌ بأن نطبعَ على أثره وهو يغادرنا قبلاتٍ ودمعاتٍ تليقُ بذكراه الطيبة.
المشاهدات : 84023
التعليقات: 0