مهما حاولت أن تتلمس عذابات من حولك أو تستشعرها وأنت لم تتذوق مرارتها فستبقى تجربة ناقصة وإحساسًا لم يكتمل، وستظل مجرد كلمات تقال مجاملة لتخفيف وطأة من يستشعر الألم.
هناك من يكبر في مقتبل عمره ويعتصره ألم المعاناة، ويحوم حوله شبح الشيخ الهرِم وهو يافع لم يرَ من مستقبله ويومه الأول غير نحيب أهله وفراق من أحبه وأسكنه دار الأمان وقت حاجته.
لم أكن أظن يومًا أن أقف مكتوف الأيدي أمام تلك الصرخة اليائسة دون أن تتحرك قدماي وأمد يد العون لأمسح دمعة تلك الأم المكلومة وطفلتها تصرخ خلفها، لن أبقى هنا.. أريد العودة، أريد أبي، أين أخي لماذا لم أره؟
لكِ الله يا صغيرتي.. فكم من بعد عسرٍ يُسرًا، سيظل الألم جزءًا من حياتك: إن تعايشت معه سيزول، وإن سخطت واستعديته تمكن منك.
كنت أحدث نفسي وأتساءل: ماذا سأجني من كل هذا العناء؟ ماذا سيقال عني عندما أدير ظهري لكل هذا، وأدع كل شيء خلفي غير آبه بنداء أو طلب استجداء، أمضي وحيدًا كما بدأت؟
أليس من الشجاعة أن تمضي وتمسح أثر أقدامك؛ ليعلم الجميع بأنك لم تكن هنا؟ أليس من الفضيلة أن ترتعش يديك ويسقط متاعك فيتلقفه مستحق باحث عن شمعة في نفق مظلم ثم يعود أدراجه كما بدأ وتنتهي به على بقايا ما ترك له الآخرون من سقط المتاع؟
لم يعد مهمًّا كيف وصلت له. (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
الأسى لا شيء يعادله في وقعه على النفس الحاضرة الأبية النقية، فهو مؤلم حد القتل؛ يتربص بصاحبه ويتلبسه ويقع على كل حواسه لا يثنيه بردًا أو سلامًا حتى يستبد به ويرديه روحًا تنازع، كمن ينشد ماءً في أرض لا ينبت بها زرع أو يجري فيها ماء، تركها أهلها بعد أن مات فيها كل أثر لحياة.
ما خُلقنا لمثل هذا.. فأينا ساقته الأقدار لمثله، فحمدًا على حال المؤمن، ومن مثلنا حاله كله خير، شاكرًا في محنته، وشاكرًا في هبته، يختم صبره ظافرًا وعذابه إحسانًا، وهمه مغفرة ورضوانًا.
********
ومضة:
أفهم كما تشاء.. فلا سلطان لنا على عقول الناس.
صوتي عالٍ دائمًا.. ليصلك وأنت في مخدعك.