عندما أردت أكتب عن شهر رمضان تداعت المعاني عندي تداعيا حرا مطلقا ، ومعنى تداعت المعاني كل شيء ذكر معه شيء أو أتى معه بشيء وتداعي المعاني نوعان .. تداعي حر مطلق وتداعي مقيد .. وقد استخدم مؤسس نظرية التحليل النفسي ( سيجموند فرويد ) التداعي الحر المطلق في علاجه للمرضى بدلا من التنويم المغناطيسي في أواخر حياته .. والتداعي المقيد هو كلمة تستدعي كلمة أو اسم يستدعي اسم ومثال ذاك عندما أذكر مكة فمكة تستدعي المكرمة وعندما أقول المدينة فالمدينة تستدعي المنورة وعندما أذكر جبل فالجبل يستدعي عرفات أو أحد وهكذا ..
فلما أذكر رمضان تتداعى عندي المعاني تداعيا حرا مطلقا مبتدئا بذكرياتي في الطفولة ومع أهلي أبي وأمي يرحمهما الله وجيراني ، وكيف رمضان في التسعينات الهجرية وأتذكر صياما وأياما وليالي في سنين خلت عشتها في حارتنا ( حارة العبادي ) عندما كنت في الابتدائية والمتوسطة والثانوية .. أتذكر الجرار والشواطر والبلابل والرجبيات ، وحرارة الصيف وبللة الشراشف والتغطي به لتصنع جوا من التكييف والبرودة وأتذكر توزيع القطيبة على الجيران مع ولدتي يرحمها الله وأتذكر التحلق في المساجد لسماع الوالد الشيخ محمد بن علي مطاري يرحمه الله وهو يقرأ ويحدث علينا والآباء يستمعون في صمت وانتباه وأتذكر يحيى بن موسى عبادي يوزع بسكويت أبو ميزان علينا ويصب الشاهي لنا .. وأتذكر أجمل سنوات العمر .. وتستمر المعاني في تداعيها حتى اليوم ١٤٤٤هـ .
ثم تتداعى المعاني فأول ما يخطر في الذهن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف أنه اتخذ هذا الشهر لتعبده وتحنثه وخلوه بنفسه في غار حراء قبل أن يتنزل عليه الذكر الحكيم وبعد أن بدأ يدعو الناس إلى عبادة الله وحده أتذكر جهاده وعبادته ونصحه وإرشاده وصيامه وقيامه وغزواته وحروبه وعمره الطاهر وسيرته العطرة .. ثم تتداعى المعاني فاذكر القرآن الكريم الذي أنزله الله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم نزل بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدة ثلاث وعشرين سنة حسب الوقائع والمناسبات .. ثم تتداعى المعاني فيحضرني انتصارات المسلمين في شهر رمضان بدءًا من غزوة بدر الكبرى إلى العاشر من رمضان 1393هـ ضد العدو الإسرائيلي السادس من أكتوبر ١٩٧٣م. وتتداعى المعاني فأذكر فضل شهر رمضان فهو سيد الشهور وفيه ليلة خير من ألف شهر وإذا دخل رمضان صفدت فيه الشياطين وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار .. وهو شهر الخيرات والصدقات والبر والإحسان وصلة الرحم وكان رسول الله يتدارس القرآن الكريم مع جبريل عليه الصلاة والسلام في هذا الشهر مرة كل سنة وفي آخر سنة من عمره الطاهر صلى الله عليه وسلم تدارس القرآن مع جبريل عليه الصلاة والسلام مرتين ( يعني راجعه معه ) . وهو شهر يغفر الله فيه لعباده ويعتقهم من نيرانه ويتفضل عليهم في آخر ليلة من لياليه وفي صبيحة العيد لمن حضر الصلاة واستمع للخطبة حتى النهاية ، وهو شهر لا يحرم فيه من الخير والرحمة والمغفرة إلا شقي محروم ، وقد ورد في الحديث الشريف : ( ر غم أنف إمرىء دخل عليه رمضان وخرج ولم يغفر له فيه ) .
وهو شهر يقبل فيه المسلم بقلبه وعقله على الله سبحانه راجيا وطامعا في مغفرته ورحمته وفيه تكثر الصدقات والهبات وكان رسول الله أجود ما يكون في رمضان وكان أجود من الريح المرسلة وفيه يقبل الله توبة التائبين ، كما أنه يقبل التوبة من سائر عباده في سائر أيامه ولياليه وشهوره والله سبحانه يحث عباده على التوبة والعودة إليه وهو الرحمن الرحيم قال تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ). فهي فرصة لنا جميعا أن نتوب ونعلن التوبة في كل وقت وفي رمضان أفضل .. وتتداعى المعاني فأتذكر أن في الجنة باب يقال له الريّان لا يدخل منه إلا الصائمون ويمر في ذهني الحديث القائل: ( للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربّه ) . يوم يقول الله : ( كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية ) . وأتذكر أن ( رائحة فم الصائم عند الله أطيب من رائحة المسك ).
وشهر رمضان يمر بسرعة والعمر ينقضي بسرعة فيفرح من أحسن واتقى وقدم لنفسه الصالح من الأعمال في رمضان ويخسر الخاسرون يقول الشاعر :
غدا توّفى النـفوس مـا كسـبت
ويحصـد الزارعون ما زرعـوا
إن أحسنوا فقد أحسنوا لأنفسهم
وإن أسـاءوا فبئس ما صنعوا
وعلينا جميعا أن نتوب ونعود إلى الله والفرصة مواتية الآن وخاصة ونحن في هذا الشهر الكريم فلنعد إلى الله ولنجدد التوبة وتتداعى المعاني فأتذكر الصحابة رضي الله عنهم وكيف يستقبلون رمضان بفرحة غامرة يقومون لياليه وفي النهار صيام وجهاد مع أئمة الكفر وصناديد قريش ويدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان فإذا ما بلغهم رمضان وصاموه وقاموه دعوا الله ستة أشهر أن يقبله منهم .. وتتداعى المعاني وتسيل الدموع فيتوقف لساني يدي ولا يكمل الذكريات.
المشاهدات : 43092
التعليقات: 0