أن تعيش مع الأطفال تجربة لحظية لا تتجاوز الأربعين دقيقة تقرأ على مسامعهم مقولة محفزة للقراءة اقتبستها من كتاب (أيها القارئ عد إلى وطنك) تقول فيها (ماريان وولف) : “أن تكون إنسانا أخلاقيا هو أن تنتبه، أن تكون ملزما بالإصغاء، وأن تمنح غيرك من الاهتمام” لنقيس دهشة أكثر من 40 متعلما من عمر 8-12عام وطريقة تلقيهم للمقولة، بتوظيف استراتيجية تعليمية تواصلية لجذب تركيزهم بلغة اتصال آسرة للتنبيه، ولتثبت مفردات العبارة الجديدة بعقلهم وتصارعها أفكارهم النفسية حول ذواتهم، فتتجاوز تلك المعلومة فضولهم وتنحفر بقلمهم بعد أن تم إعادة ترديدها وإملائها عليهم من جديد، ومن ثم تصويب أخطائهم الكتابية، فتأتي لحظة التفاضل بين المتعلمين حول تفسير العبارة التي تجاوزت 15 كلمة، وبالملاحظة والمقابلة نقف على تقييم قدراتهم الفكرية في تكوين مصطلح يتناسب مع الفكرة العامة للمقولة، حيث لم يتمكن سوى 8% من تحديد الفكرة العامة للنص وفسّر فهمه حولها، ومن ثم خُتِم المشهد بإهداء المقولة كرسالة موقعة من معلم لمتعلم ليتعمق بفكرهم حضور العبارة والحدث بمعيّتهم .
بهذا التمهيد نقف على مشكلة تواجه أجيال العصر التي تجد صعوبة بالغة لفهم ما تقرأ من نصوص أدبية وأسئلة معرفية، لنواجه معهم هذا التضاؤل في القدرات وضعف المهارات التفكيرية، مقارنة مع ما يتلقونه من معرفة سطحية ارتبطت بالعصر التقني السريع، والتي تقتصر على مدونات ورسائل يومية في لغة تواصلية محدودة مالت للعامية، وتداولاتها العادية خالية من اللغة الأدبية الإبداعية، من هنا تشكلت القضية لنبحث عن وجهة سريعة لحلول نمطية ومبتكرة في رحلة تحسين طريقة تفكير الأجيال مع ما يقرأون؟ ونتجاهل سؤال الأجيال وأسرهم المتكرر أمام هذه المشكلة: ما الذي سنقرأ؟ وهو سؤال طبيعي لجيل نشأ على الانترنت وتويتر والتيك توك واليوتيوب وغيرها من مواقع الشبكات التواصلية، التي حددت له عددا محدودا من الكلمات لصياغة أفكاره، لينضمر تفكيره العميق ويختصره بردود متداولة سطحية، أو أراء يستنسخها على عجل، وما عينة التجربة إلا جزءا من مشكلة انحسار تفكير الأجيال كردة فعلهم البطيئة لتفسير العبارة المقدمة لهم، وبالتالي هل سيستصعب الجيل فهم النصوص الأدبية أو قراءة مجموعة قصصية؟ نعم تحقق ذلك وقرأت مؤشرات ينحسر فيها تفكيرهم، ففي خلال الثلاث الأشهر التي تسبق رمضان قدمت لعينة من عشرة متعلمين مجموعات قصصية لا تتجاوز 30 صفحة لخوض تجربة القراءة العميقة لها ومن ثم تلخيصها في خمسة سطور معدودة، وإذا بالمتعلم ينسخ المعلومة من القصة ويضعها بنموذج الملخص دون أي تعديل يعبِّر عن رأيه حولها، وبالحوار معهم وجدتها مرتبطة بممارسات يومية ساعدت على انخفاض قدراتهم الحالية كتأثير تدوين الواجبات اليومية القصيرة المستنسخة حلولها من الانترنت دون التعمق المفاهيمي لدلالة المعرفة فيها، وهو مؤشر لفقد الأنا لديهم وقلة ثقتهم بقدراتهم والتعمق بمكنون فكرهم، مما أثر على العلاقة بين جودة قراءتهم وجودة تفكيرهم حول ما يقرأونه، كونهم مشتتين غارقين بمغريات ترفيهية رقمية، وبالتالي لا صبر للمعرفة لديهم ولا حدس يدهش عقلهم، الغرابة أن هذه الممارسة لم تقف على جانب القراءة كإثراء، بل سبقتها مرحلة القراءة المعرفية فعند أداء الاختبارات التقييمية يأتي تفسيرهم مثلا لسبب اختيار الإجابة الصحيحة دون الخاطئة بكلمات غير منطقية (هكذا وجدت الإجابة ونقلتها) رغم ما يقدم لهم من تدريبات لجذب تفكيرهم للحل المهاري الصحيح.
ومثل هذه القضايا المعرفية والعقلية حتما لا تمر دون أن نستدعي لها الجميع للمعالجة، فجاءت الحملات التثقيفية والتوعية للمتعلم وأسرته، بأن هذه الممارسات الأسرية والتعليمية في حل الواجبات المنزلية لا تعطي مؤشرا لتحسّن مهارات المتعلم القرائية مهما أقبل عليها، كونها غير دائمة لضمان نمو تفكيره، فقد غاب منهم وعنهم ذلك الشعور بأنها ممارسة خاطئة وتشكل مشكلة نفسية وعقلية ومعرفية، ولابد من التوجّه بحماس مشترك ووعي جماعي لحلها.
تصف (ماريان وولف) حالة هذا التشتت على التفكير والدماغ بقولها: ” إن الاعتماد على المؤثرات الخارجية يزداد مع الثقافة الرقمية يشكل نقطة تراجع للذاكرة وعملها على نحو تراكمي، وهو ما سبق لسقراط التنبيه حولها خاصة حول اللغة المكتوبة صيغة للنسيان بشكل عملي” فحاجة البشر للإحساس بما يواجههم من مشاكل وتحديات تظهر بقوة عند ممارسة القراءة والتي بدورها تطوّر وتعمّق الإحساس بواقع الحياة وتسمح للفرد العودة لثقافته القرائية عند الحاجة، وهنا يأتي دور التربوي ومن يكتب للطفل في جذب وشدّ أنظاره وفكره للمادة المقروءة فتوقظ شعوره للتعمق والتنبّه للدهشة، فيعيش مع الحدث ويستلهمه ويعيد الدور يقلّبه فيجد فيه مأمنه وما يمحو حيرته، ويزيده شغفا لمحاكاة إبداع من حوله، وبالتالي يزداد حماسه للتغيير من منظور تفكيره ومشاعره مع الآخرين، تصف (ماريان وولف) هذه اللحظة من القراءة العميقة بقولها: “تترتب على القراءة عملية مقابلة ومساوية للعودة إلى الذات لا على نحو كلي ولكن على نحو جزئي غير تام” بالفعل هذا ما حصل مع المتعلمين بعد التدريب على ألية التلخيص ليعيد تجربته القرائية التي تعينه على كتابة الملخص، حتى إذا عدنا بهم وشاركناهم التجربة لنتمكن من قرب على قياس تفكيره بعد قراءة قصة أو كتاب، فنجده لا يقتبس سوى العنوان فقط، فيتيه في منظومة القراءة بين رأيه كقارئ أو ردة فعله لإبداع المؤلف أو انطباعه عن الدار الناشرة في إخراج الكتاب وطباعته، حتما كانت البدايات صعبة لا يستجمع جملة حولها تفسّر ما قرأه، لتتحسن ببطء بعد الورش التدريبية ومن المؤكد أن عدم استدامة الممارسة سيفقد الجيل المهارة.
والواقع اليوم جعل الكبار قبل الصغار يتيهون في التفكير السطحي لقراءة واقعهم وممارساتهم تندر وتقل من استحضار القراءة كهدف يومي يثري عقولهم، وفي العملية التعليمية تشتد أهميتها على وجه الخصوص، كونها سر تحصيل المعرفة ووسيلة اتصال الإنسان بغيره لتتشكل ثقافته، وبها يعيش إرث الماضي، وجوهر الحاضر، ويستشرف للمستقبل.
ومن خلال التجربة نقترح الأجدر من الاستراتيجيات التربوية التي تعين المتعلم ليطوّر تفكيره، ويتكوّن لديه منتج يبرهن تحسّن مهاراته القرائية والكتابية معا، لتشكل أداة لقياس عقلية الجيل وتفكيرهم في العصر الرقمي، ومن جملة المقترحات والحلول توظيف (الاسترجاع) الاستدعاء الذاتي وهو من استراتيجيات التطور المعرفي وذلك لمساعدة الأطفال على مراقبة ما يستوعبونه وتعزيز ما تعلموه في ذاكرتهم لفترة طويلة خاصة عندما يتلقون المعلومة عبر شاشات رقمية فإن انتباههم يتلاشى عن المعلومة لتلك المؤثرات الموسيقية والاضواء فتأتي أسئلة المعلم لتعيده لقراءة النص واستكشاف حبكته وتطور ذاكرته مع القراءة الإبداعية. وأشار الدكتور عيسى الحمادي في كتابه (القراءة الإبداعية مهاراتها واستراتيجيات تدريسها) لسبعة استراتيجيات في التفكير المتشعب لتنمية القراءة الإبداعية: “استراتيجية التفكير الافتراضي، واستراتيجية التفكير العكسي، واستراتيجية الأنظمة الرمزية المختلفة، واستراتيجية التناظر، واستراتيجية تحليل وجهات النظر، واستراتيجية التكملة، واستراتيجية التحليل الشبكي”
ولتحقيق نتائج تطبيق الاستراتيجية بات مهما تخصيص نصف ساعة يوميا لقراءة مادة متنوعة بعناية المعلم من كتاب أو مقال بصورة مشتركة أو فردية يلخص فيها المتعلم ما قرأه ويكتنز من هذه السقاية المعرفية مفردات لغوية متنوعة، ولعل في شهر رمضان الكريم ما يؤكد هذه الاستراتيجية بممارسات عالية في الحوار الثقافي حول قراءة تفسير آيات محكمات بالمجلس الأسري فتتعزز المهارة القرائية بملاحظة الوالدين لتطوّر التفكير بالسلوكيات المشتركة عند تطبيق القراءة الجماعية والحوار الأسري ليتشكل الإبداع مع التفكير الجمعي.
يقول الدكتور عيسى الحمادي : “حث الإسلام على القراءة وهي إحدى وسائل التفكير، ومعطياته، ولذلك فقد ربط الله – تعالى- بين القراءة والإبداع في أول آية نزلت، قال تعالى: ﴿ أَقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ (العلق1)، والخلق هو الإبداع، والإبداع هو استحداث الشيء على غير مثال سابق، لذا فإن العلاقة بين القراءة والإبداع علاقة وطيدة سبق إليها القرآن الكريم، وحثنا عليها منذ أول أمر في أول آية نزلت، وهذا يدل على أهمية هذا الارتباط القرآني بينهما وأهمية القراءة الإبداعية ودورها الفعال في التفكير وتحقيق الإبداع لدى المتعلمين” من هنا يترسخ بذهن الأجيال القيمة الدينية والهوية اللغوية من قراءة القران وما يتحقق بعده من ترابط فكري، وصفها الدكتور(عيسى الحمادي) بالعمليات العقلية: “في أعلى مستوى من التفكير، كالتحليل والفهم والتعميم، والتجربة، والإدراك، والحكم ، والاستنتاج، والربط… فالقارئ يتطوّر فكره ليس من خلال ما يقرأه فقط، وإنما طريقته وأسلوبه ومهاراته في القراءة والتي يستطيع من خلالها أن يوظف تفكيره في أعلى مستوياته، وينتقل من التفكير التقاربي إلى التفكير التباعدي للبحث عن الإبداع وعما هو جديد فتتسع ،آفاقه، وتمتد أفكاره إلى ما وراء الكلمات والجمل، فيحلل ويفسر”
وفي الختام فإن هذه الممارسات والاستراتيجيات تكاملت في رحلة إثرائية للمتعلمين بدايتها مع القراءة العميقة والتلخيص وفنونه، وصولا لتتبّع تحسّن المتعلم في الأداء المعرفي، وختامها التوجيه المستمر والتشارك معه لينقش منتجه الإبداعي والتي تشكلت في كتابة قصص قصيرة وسيرة ذاتية يومية لعدد محدود لا يتجاوز 15 متعلما مبدعا (برفقة كتاب الطفل يطرق كل باب).
المشاهدات : 32469
التعليقات: 0