الله يكفينا شر الـ”كاروشي”، وقد يتساءل بعض الناس عن معنى هذه الكلمة.
“كاروشي” في الحقيقة مصطلح ياباني يُعنى به: “العمل حتى الموت”، أو “الموت من الإرهاق في العمل”، وهناك نوعان للكاروشي، الأول: العمل حتى الوفاة بنوبة قلبية بسبب العمل المتواصل والإجهاد، والنوع الثاني: الانتحار بسبب ضغوطٍ وأفكارٍ لها علاقة بالعمل، وضحايا الكاروشي بالمئات سنويا في اليابان.
يقول أحد الأصدقاء: أعتقد أني كنت قريبًا من الكاروشي المندرج في النوع الأول بسبب ضغوط العمل؛ إذ وجدت نفسي مدمناً على العمل على رغم استمرار الضغط، لكن كانت المشكلة بأن (الكاروشي) مرض صامت يلاحقك مع كل نجاح، وهذا النجاح المستمر له ضريبة لا يمكن تعويضها مع مرور الوقت، تشمل وقتك وصحتك، غير أن هناك أعراضا أخرى لهذا المرض تظهر تدريجياً، فقد كانت صحتي في تدهور مستمر، ولا وقت لديّ لنفسي؛ إذ إن كل وقتي للعمل والعمل فقط.
أما عن صحتي فلا نوم كافٍ، ولا طعام كافٍ، ولا استراحة كافية، ولا مجال للإجازات؛ لأنّ العمل في حاجتك دائما.
فليس هناك وقت لوالدي، ولا أسرتي، ولا لنفسي، تمرّ أيام أحيانا لا أستطيع زيارة والدي، وتمر أيام لا أستطيع أن أجلس فيها مع أسرتي، وقد تمر أشهر لا أكاد أزور قريبا، أو أصل رحما، وتمر أشهر لا أستطيع أن أمارس فيها أي هواية أحبها؛ فليس هناك وقت؛ إذ إن الوقت كله للعمل!
سألت نفسي: ثم ماذا؟ وإلى متى؟ العمر يمضي هل أستمر هكذا حتى التقاعد؟ حين ترميني الوظيفة بعمر الستين منهكا محطما لأبحث عن العلاج في المستشفيات، ويكون الوقت قد مرّ بسرعة على أن تجلس مع والديك وأسرتك وتسافر وتستمتع بحياتك وتمارس هواياتك؟
في الحقيقة آثرت أن أدرك الوقت وأستغل العمر وأستمتع بما بقي منه، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: “أعمار أمتي بين الستين والسبعين”،
فكم بقي من هذا العم؟ وهل أقضيها وأنا أعمل؟
في الوقت نفسه وخلال فترة عملي الماضية رأيت مشاهد أعطتني بعض الدروس، رأيت أناسا يتسلمون ورقة وقطعة معدنية كتبت عليها بعض كلمات الشكر في مناسبات تقاعدهم وهم بالكاد يقفون على أرجلهم، بل إن بعضهم بالكاد حمل الدرع التذكاري فقد كان ثقيلا لأن يديه ترتجف بعد أن انهالت عليه الأمراض من ضغط وسكر وغيرها بسبب ضغوط العمل، لأنهم كانوا مسؤولين كبارا، قضوا معظم وقتهم بين الجُدُر الإسمنتية والمكاتب ليلا ونهارا (عشان ما يوقف العمل) أو كما يقولون.
أنا أعتقد بعد تكريم التقاعد سيذهب هذا المتقاعد للمستشفى مباشرة ليقيس الضغط والسكر لأنه اختل بعد (المفطح) في التكريم، إضافة إلى أنه ليس كل المدعوين يبكون على فراق هذا المدير الناجح بل أن بعضهم يقول “فرقاه عيد ويوم سعيد”، فلا هو الذي كسب القلوب ولا هو الذي كسب صحته.
رأيت بعض المتقاعدين الذين أدمنوا رائحة المكاتب (وقهوة العامل)، فتراه كل يوم لابسا بشته ويدور في الدوائر الحكومية يخلص معاملات زي ما يقول، واذا لم يجد من (يخلص له معاملاته) يمر ليسلم على مديري الدوائر الحكومية يذكرهم بأنه كان مدير الدائرة الفلانية في يوم من الأيام لعله يجد بعض الترحيب والمديح، وفي داخله يتمنى أن العمل بعده توقف وأن الدنيا وقفت عليه (عشان الناس تفقده).
وأقول في نفسي: عزيزي المتقاعد العمل لا يتوقف على أحد والكراسي والمكاتب لا تفتقد أحدا، بل حتى الموظفين لا يفتقدون المدير (تروح ويجي غيرك) وكل شيء باقٍ، المباني الإسمنتية باقية، والمكاتب والكراسي باقية، والذي يذهب أعمارنا وصحتنا.
أخيراً أقول: العمل عبادة، والعمل بجد واجتهاد شيء جميل، لكن اجعل شعارك: “لا تخليها كاروشي”.
جامعة الجوف.
للكاتب – سلطان الدهيليس